القائمة الرئيسية

الصفحات

الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالأمراض النفسية في المجتمعات العربية

 

الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالأمراض النفسية في المجتمعات العربية

في عالمنا العربي، لا تزال الأمراض النفسية محاطة بهالة من الصمت والحرج، وكأن الحديث عنها يُعدّ اعترافًا بالضعف أو فقدان العقل. رغم أن الطب النفسي تطور، وأصبحنا نملك فهماً علمياً دقيقاً لحالات مثل الاكتئاب، القلق، واضطرابات ما بعد الصدمة، إلا أن أغلب من يعاني منها يفضّل الصمت على طلب المساعدة. لماذا؟ بسبب "الوصمة الاجتماعية" التي تلاحق المرض النفسي في ثقافتنا.

الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالأمراض النفسية
الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالأمراض النفسية 


ما هي الوصمة الاجتماعية؟

لطالما شغلتني فكرة "الوصمة الاجتماعية" المرتبطة بالأمراض النفسية. ماذا تعني حقًا؟ ببساطة، الوصمة الاجتماعية هي نظرة المجتمع السلبية تجاه شخص يعاني من حالة معينة، سواء كانت نفسية أو جسدية أو حتى اجتماعية. وكأن المرض النفسي ليس مجرد معاناة داخلية بل أيضًا عبء خارجي يفرضه الناس على المريض!

في السنوات الأخيرة، شهد العالم ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الأمراض النفسية، من الاكتئاب والقلق إلى اضطرابات الشخصية والإدمان. والأرقام لا تكذب: ملايين الأشخاص حول العالم، ومنهم نسبة كبيرة في المجتمعات العربية، يعانون بصمت. لكن المفارقة المؤلمة أن الحديث عن هذه الأمراض ما زال محاطًا بالكثير من الخوف والإنكار، بل والعار أحيانًا.

تساؤلت كثيرًا: لماذا لا نزال نخجل من الاعتراف بأننا نتألم نفسيًا؟ لماذا يُنظر إلى من يزور طبيبًا نفسيًا كأنه "ضعيف" أو "مجنون"؟ في رأيي، هذه النظرة ليست إلا انعكاسًا لموروثات قديمة، وجهل عميق بطبيعة النفس البشرية. فالناس لا يرون أن الصحة النفسية جزء أساسي من الصحة العامة، وأن المرض النفسي لا يقل أهمية عن أي مرض عضوي.

ومع كل التقدم العلمي والطبي، تبقى الأمراض النفسية في كثير من الأحيان "موضوعًا محظورًا" أو "تابو" لا يُناقش إلا همسًا، وربما خلف الأبواب المغلقة. وهنا يبرز السؤال الأساسي الذي سأناقشه في هذا المقال:
لماذا تظل الأمراض النفسية موضوعًا "محظورًا" رغم كل ما وصلنا إليه من وعي وتطور؟

أولًا: ما هي الوصمة الاجتماعية؟ ولماذا تُؤلم أكثر من المرض أحيانًا؟

عندما نتحدث عن الوصمة الاجتماعية، فنحن لا نصف فقط موقفًا عابرًا أو تعليقًا جارحًا، بل نصف ثقافة متجذّرة في نظرتنا لبعض الفئات أو الحالات. الوصمة الاجتماعية هي حكم مُسبق يطلقه المجتمع على شخص يمر بتجربة معينة، كالإصابة بمرض نفسي، وكأن هذا الشخص قد ارتكب خطيئة لا تُغتفر!

أنواع الوصمة: نظرة المجتمع مقابل نظرة الإنسان لنفسه

من خلال تأملي وملاحظتي، أستطيع أن أميز نوعين رئيسيين من الوصمة:

  • الوصمة الخارجية: وهي تلك النظرات والكلمات والتصرفات التي تصدر من الآخرين تجاه المريض النفسي. كأن يُقال عنه: "مجنون"، أو "خطر"، أو ببساطة يُعامل بتوجّس وخوف. هذه الوصمة تنبع من جهل أو خوف أو أحكام مسبقة.

  • الوصمة الداخلية: وهي، في نظري، الأخطر. حين يبدأ الشخص نفسه في تصديق تلك الأحكام، فيشعر بالخجل من مرضه، أو بالذنب لأنه "ليس قويًا بما فيه الكفاية"، أو يبدأ في إخفاء ألمه عن أقرب الناس إليه. هذه الوصمة تنخر في روحه بصمت.

كيف تؤثر الوصمة على حياة الفرد؟

في الواقع، كثيرون لا يدركون أن تأثير الوصمة النفسية قد يكون أشد ألمًا من المرض نفسه. إليكم بعض الآثار التي لاحظتها – وربما مرّ بها البعض دون تسمية واضحة:

  • نفسيًا: يشعر الشخص بالقلق الدائم، بفقدان الثقة بالنفس، وربما يتطور الأمر إلى اكتئاب أشد، أو حتى التفكير في الانعزال التام.

  • اجتماعيًا: يخاف من التفاعل مع الآخرين، يخفي حالته عن أصدقائه أو عائلته، ويتجنب الحديث عن مشاعره خوفًا من السخرية أو الشفقة.

  • مهنيًا: قد يُرفض في مقابلات العمل بسبب تاريخ مرضي، أو يُستبعد من الترقيات بحجّة أنه "غير مستقر نفسيًا"، وهذا ظلم صريح لا يستند إلى منطق أو تقييم مهني عادل.

أمثلة من الواقع: حين تصبح النظرة أقسى من المرض

دعونا نواجه الحقيقة. كم من فتاة رُفض زواجها فقط لأن أحدهم قال إنها "زارت طبيبًا نفسيًا"؟ وكم من موظف طُرد من عمله بعد أن عُلم أنه يعاني من اضطراب القلق أو الاكتئاب؟ وكم من شاب اختار العزلة لأن أقرب الناس إليه لم يتفهموا حالته؟

هذه المواقف حقيقية، وقد سمعت بعضها بنفسي من أشخاص لجؤوا إلى الكتمان والإنكار بدلاً من طلب المساعدة. وما زلت أؤمن أن المجتمع هو جزء من الحل... أو المشكلة.

ثانيًا: من أين جاءت الوصمة؟ نظرة في جذور النظرة السلبية في مجتمعاتنا

كلما حاولت أن أفهم سبب النظرة القاسية التي يواجهها من يعانون من أمراض نفسية في مجتمعاتنا العربية، أعود إلى الجذور: إلى ثقافتنا، وتربيتنا، وطريقة تعاملنا مع الألم النفسي منذ الطفولة. لا أبالغ إذا قلت إن الوصمة لا تُولد فجأة، بل تُزرع في العقول منذ الصغر، وتُسقى بالخوف والجهل.

"الرجال لا يشتكون": حين تصنع العادات جدارًا من الصمت

كم مرة سمعنا عبارات مثل: "الرجال لا يبكون"، "الاكتئاب ضعف إيمان"، "شدّ حيلك وكن قويًا"؟ هذه الكلمات تبدو في ظاهرها تحفيزية، لكنها في الحقيقة تدفن الألم النفسي تحت طبقات من الإنكار والعار.

في ثقافتنا العربية، يُتوقع من الرجل أن يكون دائمًا قويًا، متماسكًا، لا يهتز. أما المرأة، فغالبًا ما تُتهم بالمبالغة أو الحساسية المفرطة. والنتيجة؟ الكل يتألم بصمت.

نقص الوعي النفسي: أزمة حقيقية لا نتحدث عنها

في رأيي، من أكبر أسباب انتشار الوصمة هو ضعف الوعي العام بالصحة النفسية. كثير من الناس لا يعرفون الفرق بين الحزن والاكتئاب، أو بين القلق العابر واضطراب القلق العام. وعندما لا نفهم شيئًا، فإننا غالبًا نخافه أو نرفضه. وهنا تبدأ الأحكام الخاطئة، وتنتشر الشائعات بدلًا من الفهم.

لا تربية نفسية في مدارسنا… ولا في بيوتنا

كثيرًا ما أفكر: لماذا لا نتعلم من الصغر كيف نعبر عن مشاعرنا؟ كيف نطلب المساعدة دون خجل؟ الحقيقة المؤلمة أن التربية النفسية غائبة عن مناهجنا الدراسية، وعن بيوتنا كذلك. نحن نكبر ونحن نظن أن "التحدث عن النفس ضعف"، وأن "السكوت فضيلة"، بينما في الواقع، الكتمان قد يكون سُمًّا صامتًا.

معتقدات خاطئة لا تزال تلاحق المريض النفسي

لا يمكن أن أنكر الأثر الكبير للمعتقدات الشعبية الخاطئة على تعاملنا مع المرض النفسي. ما زال كثيرون يربطون بين الاكتئاب والمسّ، أو يفسرون اضطرابات الهلع بأنها "عين أو حسد"، ويبحثون عن حل في الرُقى قبل أن يفكروا في زيارة طبيب مختص.

شخصيًا، أرى أن المشكلة ليست في الإيمان بالغيبيات، بل في أن هذه التفسيرات تُستخدم كبديل للعلم، وليس كمكمّل له. وهذا يؤدي إلى إهمال العلاج وتأخير الشفاء.

ثالثًا: كيف تؤثر الوصمة على التعامل مع المرض النفسي؟ حين يصبح الخوف من الناس أقوى من الألم

في نظري، واحدة من أخطر نتائج الوصمة الاجتماعية ليست فقط في نظرة الناس، بل في الطريقة التي تمنع الشخص من إنقاذ نفسه. تخيّل أن تكون غارقًا في معاناة داخلية، لكنك تفضل أن تصمت، فقط لأنك تخشى أن يُساء فهمك، أو أن تُرفض، أو أن تُتهم بالضعف. هنا تصبح الوصمة عائقًا حقيقيًا أمام العلاج، وربما الحياة نفسها.

تأخير طلب العلاج أو رفضه: "أنا بخير، ما فيني شي!"

كم من مرة سمعنا هذه الجملة من شخص نعلم أنه يتألم؟ الحقيقة أن كثيرًا من الناس يرفضون زيارة الطبيب النفسي رغم حاجتهم الماسة لذلك. ليس لأنهم لا يشعرون بالوجع، بل لأنهم يخافون من "الفضيحة" أو من "كلام الناس". وبعضهم يلجأ لحلول مؤقتة أو سطحية بدلًا من المواجهة الحقيقية.

من تجربتي الشخصية في الاستماع لبعض القصص، أعلم أن مجرد الاعتراف بوجود مشكلة نفسية يحتاج إلى شجاعة كبيرة، خاصة في مجتمع لا يرحم. هذه الشجاعة للأسف تُقتل يوميًا بسبب الوصمة.

 تفاقم الأعراض وقد تصل للانتحار

حين يُمنع المريض من التعبير، أو يُجبر على الكتمان، تصبح حالته أكثر تعقيدًا. تبدأ الأعراض بالتضاعف: القلق يشتد، الاكتئاب يعمّق الإحساس باللاجدوى، وفي بعض الحالات، يصبح الانتحار خيارًا مطروحًا لدى المريض، ليس لأنه يريد الموت، بل لأنه لم يجد من يفهم ألمه.

تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 700 ألف شخص حول العالم يموتون منتحرين كل عام، والكثير منهم كان يمكن إنقاذهم لو تلقوا الدعم النفسي في الوقت المناسب. وفي العالم العربي، رغم نقص البيانات الدقيقة، إلا أن معدلات الانتحار بدأت في الارتفاع، خصوصًا بين الشباب، وهذا مؤشر خطير لا يمكن تجاهله.

الوصمة لا تؤذي المريض فقط… بل أسرته أيضًا

في كثير من الحالات، تتأثر العائلة بأكملها بوضع أحد أفرادها النفسي. ولكن بدلًا من الدعم، تُصاب الأسرة بالقلق من "العار الاجتماعي"، وقد تضغط على المريض ليخفي حالته، أو ترفض الاعتراف بها من الأصل.

أتذكر قصة شاب تحدّث عن كيف منعته عائلته من زيارة طبيب نفسي قائلين: "سيظنون أننا بيت مجانين!"، وكأن الألم النفسي مرض مُعدٍ أو تهمة تُلصق بالعائلة كلها. هذا الضغط يجعل المرض يتفاقم، والعلاقات الأسرية تتصدع بصمت.

أمثلة من الواقع العربي: الواقع أصعب مما نتصوّر

في إحدى الدراسات التي أجريت في السعودية، وُجد أن أكثر من 60% من المشاركين يربطون المرض النفسي بالضعف الشخصي، وليس كونه حالة طبية قابلة للعلاج. وفي مصر، أشارت تقارير إلى أن كثيرًا من المصابين بالاكتئاب لا يزورون الطبيب بسبب الخوف من نظرة المجتمع.

هذه ليست أرقامًا فقط، بل هي انعكاس لواقع مؤلم. واقع يحتاج إلى وعي جماعي، وشجاعة في مواجهة الخوف بالصراحة، والجهل بالمعرفة.

الوصمة لا تقتل بصوتٍ عالٍ… بل تسرق الأرواح في صمت.
فمتى نتوقف عن الخوف، ونبدأ في الفهم والدعم؟

رابعًا: بين الإعلام والتعليم والدين… من المسؤول عن تصحيح الصورة؟

حين نتحدث عن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي، لا يمكن أن نتجاهل ثلاث جهات تلعب دورًا محوريًا في تشكيل وعي الناس: الإعلام، والتعليم، والدين. هذه المؤسسات ليست فقط وسائل للتأثير، بل أدوات قوية إمّا أن تساهم في التغيير… أو في تعميق المشكلة.

الإعلام: بين التهويل والتهميش

كم مرة شاهدت مسلسلًا أو فيلمًا يُصوّر المريض النفسي على أنه مجنون يصرخ في الشارع؟ أو مجرم خطير لا يمكن الوثوق به؟ للأسف، الإعلام العربي غالبًا ما يُرسّخ صورة نمطية مشوهة عن المرض النفسي. بدلًا من تقديم شخصية إنسانية قريبة من الواقع، نرى نماذج تخيف، تُشوّه، وتُثير السخرية أحيانًا.

من وجهة نظري، هذه الصورة لا تُضحك، بل تؤذي. لأنها ترسّخ في أذهان الناس فكرة أن المرض النفسي مرادف للجنون أو العنف، وهذا غير صحيح تمامًا.

لكن… يمكن للإعلام أن يصبح أداة توعية هائلة

لا أنكر أن هناك جهودًا إيجابية بدأت تظهر في بعض الأعمال الدرامية والبرامج الوثائقية التي تفتح نقاشًا حقيقيًا حول الصحة النفسية. تخيّل لو خصصت القنوات الشعبية برامج دورية يتحدث فيها مختصون، أو عُرضت قصص شفاء حقيقية من الاكتئاب أو القلق… كم من الناس سيتشجعون لطلب المساعدة بدلاً من الإنكار؟

أعتقد أن الإعلام إذا قرر أن يكون جزءًا من الحل، فبإمكانه الوصول إلى الناس بلغة يفهمونها، وصورة تقرّبهم لا تُبعدهم.

التعليم: أين الصحة النفسية من المناهج الدراسية؟

منذ كنا أطفالًا، لم يحدث أن تحدّث معنا معلم عن مشاعرنا، أو علّمنا كيف نتعامل مع القلق أو الحزن. كأن الصحة النفسية أمر لا علاقة له بالتعليم، رغم أنها جوهر نجاحنا الدراسي والاجتماعي.

في رأيي، دمج مفاهيم الصحة النفسية في التعليم ليس رفاهية، بل ضرورة. نحتاج دروسًا في الذكاء العاطفي، والتعامل مع الضغط، وفهم الذات، تمامًا كما نحتاج إلى الرياضيات واللغة. هذا الاستثمار سيمنح الأجيال القادمة أدوات للتعامل مع الحياة بشكل أكثر وعيًا وتوازنًا.

دور الدين والدعاة: بين التشجيع والخوف

لا شك أن للدين أثرًا عميقًا في نفوس الناس، وخاصة في المجتمعات العربية. وهنا يأتي دور الخطباء والدعاة، إما في تعزيز الوصمة أو في تصحيح المفاهيم.

للأسف، لا يزال بعض الخطاب الديني يربط بين الاكتئاب وضعف الإيمان، أو يختزل المرض النفسي في فكرة "أكثروا من الذكر وسيزول"، وكأننا نُلغي أهمية الطب والعلم.

لكن في المقابل، هناك دعاة ومشايخ تنويريون بدأوا في التوضيح بأن طلب العلاج النفسي لا يتنافى مع الإيمان، وأن الروح تحتاج دعمًا مثل الجسد تمامًا. وهذه رسالة مهمة يجب أن تصل إلى كل من يشعر بالذنب لمجرد أنه يعاني.

في النهاية، نحن بحاجة لتكاتف الإعلام، والتعليم، والخطاب الديني، لا من أجل التوعية فقط، بل من أجل إعادة إنسانية المريض النفسي، ومنحه حقه في الحياة الكريمة بلا خجل ولا خوف.

خامسًا: كيف نكسر هذه الوصمة؟ خطوات نحو مجتمع أكثر وعيًا ورحمة

كلما فكرت في حجم المعاناة التي يسببها الصمت والخوف من المرض النفسي، كلما ازددت قناعة بأن الوصمة ليست "قدرًا"، بل سلوكًا اجتماعيًا يمكن تغييره. نعم، كسر الوصمة ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب وعيًا جماعيًا، وخطوات حقيقية وشجاعة. ومن وجهة نظري، هذه بعض أهم المسارات التي يمكن أن تقودنا نحو التغيير:

إدخال التوعية النفسية في المدارس والجامعات

من أين يبدأ التغيير؟ من الجذور. لو تعلّم الأطفال والمراهقون منذ الصغر أن المشاعر ليست عيبًا، وأن الألم النفسي لا يقل أهمية عن الألم الجسدي، لكبروا وهم أكثر توازنًا. نحن بحاجة إلى مناهج تعليمية تُدرّس مهارات الحياة النفسية: كيف أتعامل مع القلق؟ كيف أطلب المساعدة؟ كيف أتعاطف مع الآخرين؟

التعليم ليس فقط درجات وامتحانات، بل هو بناء إنسان سليم من الداخل.

مشاركة قصص التعافي… لأن الأمل مُعدٍ

أجمل ما في القصة الصادقة أنها تُشعرك بأنك لست وحدك. كثير من الناس تعافوا من الاكتئاب، من القلق، من الوسواس القهري، لكنهم لا يتحدثون، خوفًا من نظرة الناس. تخيّل لو بدأ هؤلاء في مشاركة تجاربهم، كيف ستكون النتيجة؟

من تجربتي، لا شيء يُلهم أكثر من أن تسمع من شخص مرّ بما تمر به… وتعافى.

تحسين خدمات الصحة النفسية وإتاحتها للجميع

للأسف، في كثير من البلدان العربية، العلاج النفسي إما مكلف جدًا، أو نادر، أو غير متاح أصلاً. هذا الواقع يُبعد آلاف الأشخاص عن فرصة التعافي.

من الضروري أن نطوّر البنية التحتية لخدمات الصحة النفسية، نوفر الأطباء النفسيين في المراكز الصحية، ندرّب المعالجين، ونجعل العلاج النفسي متاحًا بأسعار معقولة، أو حتى مجانًا في بعض الحالات.

قوانين تحمي المريض النفسي من التمييز

لابد من تشريع قوانين واضحة تجرّم التمييز ضد من يعاني من اضطراب نفسي، سواء في سوق العمل، أو في التعليم، أو في الحياة الاجتماعية. كثير من الناس فقدوا وظائفهم، أو حُرموا من فرص، فقط بسبب نظرة مسبقة.

القانون هنا لا يغيّر القلوب، لكنه يردع السلوك المجحف، ويفتح الباب لمزيد من العدالة.

تمكين المتخصصين النفسيين في الإعلام

لماذا لا نرى متخصصين نفسيين في البرامج اليومية، كما نرى الطهاة وخبراء الموضة؟ نحن بحاجة إلى صوت علمي واضح، يتحدث بلغة بسيطة، ويشرح للناس كيف يفهمون أنفسهم، ويُصحّح المفاهيم الخاطئة المنتشرة في الإعلام.

أنا مؤمن أن كل دقيقة يظهر فيها مختص نفسي على شاشة التلفاز أو في بودكاست، قد تُنقذ شخصًا من اليأس، وتمنح آخر الشجاعة لطلب المساعدة.

كسر الوصمة مسؤوليتنا جميعًا.
إنها دعوة لأن نكون أكثر إنسانية، أكثر وعيًا، وأكثر قربًا من بعضنا البعض.
فبدل أن نحكم، لنسأل: كيف يمكنني أن أساعد؟

لنعالج الألم… لا أن نحكم عليه

بعد كل ما ناقشناه، أعود لأكرر ما أؤمن به بعمق: الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي ليست مشكلة فردية، بل أزمة مجتمعية تحتاج إلى وعي جماعي وتغيير ثقافي جذري. هي ليست خطأ المريض، بل مسؤولية من حوله.

لا أحد يختار أن يُصاب بالاكتئاب أو القلق أو أي اضطراب نفسي. كما لا أحد يختار الإصابة بمرض مزمن في جسده. فلماذا نعامل الأمرين بمعيارين مختلفين؟
أليس من المنصف أن ننظر إلى المرض النفسي كما ننظر إلى السكري أو ضغط الدم؟

أدعو نفسي، وأدعو من يقرأ هذه الكلمات، أن يتوقف للحظة ويسأل نفسه:
هل أُصغي حقًا لمن حولي؟ هل أحكم أم أحتوي؟ هل أُشجع أم أُخيف؟

في كل بيت، في كل عائلة، هناك شخص يعاني في صمت… لا يحتاج إلى شفقة، ولا إلى وعظ، بل إلى إنسان يسمعه ويفهمه ويطمئنه أن مشاعره ليست عيبًا، وأن طلب المساعدة شجاعة لا ضعف.

كسر الوصمة يبدأ بك وبمن حولك. فكن أنت التغيير الذي يحتاجه غيرك.


 

إحصائيات موثوقة من منظمات دولية

  • منظمة الصحة العالمية (WHO) أفادت في تقريرها لعام 2022 أن أكثر من 1 مليار شخص حول العالم يعانون من اضطرابات نفسية، عصبية، أو تعاطي مواد مخدرة، مما يشكل عبئًا كبيرًا على الصحة العامة. ​emro.who.int
  • منظمة الصحة العالمية – المكتب الإقليمي لشرق المتوسط (EMRO) أشارت إلى أن حوالي 14.7% من سكان المنطقة يعانون من اضطرابات نفسية، وهي النسبة الثانية عالميًا بعد منطقة الأمريكتين. ​emro.who.int
  • دراسة في قطاع غزة أظهرت أن 99.5% من المشاركين يعانون من الاكتئاب، و99.7% من القلق، و93.7% من التوتر، خاصة بين كبار السن والنازحين. ​emro.who.int
  • دراسة في الأردن أظهرت أن 16.2% من السكان يعانون من اضطرابات نفسية، وهي نسبة أعلى من المتوسط العالمي البالغ 5%. ​Economist Impact

 


تعليقات